
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4049
بينما تدعو دول العالم لإقامة دولة فلسطينية، تعزز إسرائيل وجودها في الضفة الغربية

تشهد الضفة الغربية تحولات جوهرية مدفوعة أساساً بسياسات إسرائيلية نجحت في الحد من العمليات المسلحة، لكنها تهدف بالمقابل إلى إجهاض أي مساعٍ لإقامة دولة فلسطينية.
مع تصاعد الزخم الدولي للاعتراف بدولة فلسطينية - والذي يتجسد في القمة الفرنسية السعوديةالمقرر عقدها في نيويورك يوم 17 حزيران/يونيو - يشهد الوضع القائم في الضفة الغربية تآكلاً متسارعاً، فيما تتأجج التوترات التي كانت تغلي من قبل اندلاع حرب غزة. ويعزى هذا التدهور إلى عوامل متعددة، أبرزها الجمود السياسي والأيديولوجي لدى الجانب الفلسطيني، وضعف أداء السلطة الفلسطينية في الحكم والأمن، لا سيما في التعامل مع بؤر العنف وغياب القانون.
وفي المقابل، تتأثر الإجراءات الإسرائيلية للتعامل مع التهديدات الأمنية الحقيقية بضغوط سياسية متنامية من المستوطنين وحلفائهم المتشددين في الحكومة الراهنة. فبعض هذه الضغوط ينبع من قلق المستوطنين إزاء موجة العمليات الفلسطينية الأخيرة، بينما يرتبط جانب آخر بمشروع طويل الأمد يسعى لإعادة تشكيل المشهد الاستراتيجي في الضفة الغربية تماشياً مع رؤية سياسية وأيديولوجية صريحة - ألا وهي منع قيام دولة فلسطينية وتوسيع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
"الجدار الحديدي" أبعد من كونه "استمراراً للمألوف"
برغم اعتبار الضفة الغربية جبهة ثانوية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مؤخراً، إلا أنها شهدت مستويات عالية من العمليات المسلحة وأشكال العنف الأخرى منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فحسب بيانات جهاز الأمن الإسرائيلي، وقعت 8,670 عملية مسلحة في الضفة الغربية بين بداية الحرب ونهاية نيسان/أبريل 2025، أودت بحياة 64 إسرائيلياً وأصابت 484 آخرين. وفي المقابل، تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية والمؤسسات الدولية إلى مقتل 939 فلسطينياً في الضفة الغربية بين اندلاع الحرب ونهاية أيار/مايو 2025، سقطوا خلال مواجهات مع القوات الإسرائيلية أو المستوطنين.
منذ كانون الثاني/يناير، تطبق إسرائيل استراتيجية أمنية جديدة في الضفة الغربية تتمحور حول عملية "الجدار الحديدي"، التي تهدف إلى تقييد حركة المقاومين المسلحين، خصوصاً في مخيمات اللاجئين التي باتت منطلقاً للعمليات وملاذاً آمناً للفصائل المسلحة المنتظمة في وحدات قتالية. وقد ركزت العملية على مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية - وتحديداً جنين وطولكرم ونور شمس - التي بقيت خارج نطاق التدخل المباشر بسبب تحفظ السلطة الفلسطينية على العمل فيها، واكتفاء إسرائيل سابقاً بغارات محدودة لمكافحة العمليات المسلحة.
حققت العملية نجاحاً ملموساً على الصعيد الأمني، حيث انخفض عدد العمليات الكبرى المنطلقة من المنطقة إلى 25 عملية فقط بين كانون الثاني/يناير وأيار/مايو 2025، مقارنة بـ 135 عملية في الفترة نفسها من العام السابق. كما أدت إلى اعتقال عدد من المقاومين ومصادرة كميات كبيرة من المركبات والمتفجرات والأموال النقدية.
والأهم من ذلك، أن "الجدار الحديدي" لا يمثل مجرد "استمرار للمألوف"، بل يحمل ابتكارات جوهرية عديدة تشي بنية إعادة تشكيل المشهد استراتيجياً. ومن ذلك طول مدة العملية - التي امتدت لخمسة أشهر حتى الآن - ونشر الجيش الإسرائيلي داخل مخيمات اللاجئين بشكل يوحي بالتحضير لوجود دائم. كما تشمل تدمير المنازل والطرق والبنية التحتية على نطاق واسع، إضافة إلى النزوح (المؤقت ظاهرياً) لعشرات الآلاف من السكان. وقد تجاوز عدد النازحين خلال العملية 40 ألف شخص - وهو أكبر نزوح جماعي منذ عام 1967.
ورغم أن هذه الإجراءات قد تكون مبررة من الناحية العملياتية - كالحاجة لفصل المدنيين عن المقاتلين، وكشف المتفجرات والبنية التحتية العسكرية، وتمكين المركبات المدرعة من التحرك داخل المخيمات - إلا أنه من الصعب تجاهل تشابهها مع الأساليب الإسرائيلية في غزة، كالاغتيالات الجوية المستهدفة. وهذا يثير احتمالاً قوياً بأن العملية تخدم أيضاً أهدافاً سياسية، بما في ذلك تفكيك مخيمات اللاجئين كجزء من الحملة الإسرائيلية الأوسع ضد وكالة الأونروا.
وفي هذه المرحلة، يبقى غامضاً الدور الذي تنوي إسرائيل إسناده للسلطة الفلسطينية في إعادة تنظيم شمال الضفة الغربية، لا سيما منطقة جنين حيث يتركز النشاط الإسرائيلي بكثافة أكبر. ويعتقد مراقبون فلسطينيون أن إسرائيل قد تسعى عمداً لقطع الروابط الجغرافية والاقتصادية لجنين مع باقي المدن الفلسطينية. ويبدو أن هذا المسعى يتضمن خططاً لإعادة إحياء مستوطنات أُخليت في إطار خطة فك الارتباط عن غزة عام 2005، والتي شملت أيضاً بعض مستوطنات الضفة الغربية. كما تجري محاولات لتوثيق العلاقات الاقتصادية والجغرافية بين جنين والعرب الإسرائيليين، وذلك أساساً عبر تسهيل وصولهم إليها عبر معبر جلمة. وتشير بعض التقديرات إلى أن العرب الإسرائيليين من منطقة الجليل ينفقون أسبوعياً في جنين نحو 17 مليون شيكل (قرابة 5 ملايين دولار).
وإجمالاً، قد تعكس هذه الإجراءات تطبيقاً فعلياً لما يُعرف بـ"مخطط الكانتونات" في الضفة الغربية، الذي يحظى بتأييد في أوساط اليمين الإسرائيلي. ويقضي هذا المخطط بتقسيم المناطق الفلسطينية إلى جيوب معزولة تتمتع بحكم ذاتي محدود، بهدف منع قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافياً. وحينها ستبسط إسرائيل سيادتها على المناطق المتبقية، بما يشمل الكتل الاستيطانية الكبرى والمناطق الاستراتيجية.
مخططات استيطانية جديدة لإجهاض الدولة الفلسطينية
بتوجيه من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أقر مجلس الوزراء الإسرائيلي في أواخر الشهر المنصرم قراراً بإقامة اثنين وعشرين مستوطنة جديدة في الضفة الغربية. وكان هذا القرار قد تبلور قبل أسبوعين تقريباً عقب عملية مسلحة أودت بحياة امرأة إسرائيلية حامل قرب مستوطنة بروخين. ستقام بعض هذه المستوطنات من الصفر، بينما ستنشأ أخرى عبر إضفاء الشرعية على بؤر استيطانية عشوائية. وتقع معظم هذه المواقع في مناطق معزولة عن التجمعات الإسرائيلية الأخرى، قريباً من التجمعات الفلسطينية، وفي مناطق مخصصة لدولة فلسطينية مستقبلية حسب معظم المبادرات الدبلوماسية، بما فيها خطة ترامب للسلام عام 2020.
وإذا ما تم تنفيذ هذا المخطط، فسيمثل أوسع توسع استيطاني منذ اتفاقيات أوسلو. ويأتي هذا القرار في سياق قرارات حكومية أخرى اتُخذت في الأشهر الأخيرة، تجيز بناء آلاف الوحدات السكنية في الضفة الغربية وتطوير إجراءات تسجيل الأراضي في المنطقة "ج"، مما يمهد الطريق أمام مزاعم الملكية الإسرائيلية الخاصة ويعرقل في المقابل جهود التسجيل المماثلة التي تقودها السلطة الفلسطينية.
وتتزامن هذه الإجراءات مع تصاعد حاد في المواجهات بين المستوطنين الإسرائيليين - الذين يحظى بعضهم بدعم متنامٍ من أعضاء الحكومة - والسكان الفلسطينيين. وتشير المنظمات الدولية إلى وقوع 2,848 حادثة من هذا النوع منذ بداية حرب غزة وحتى نهاية أيار/مايو. وغالباً ما تؤدي هذه المواجهات إلى نزوح الفلسطينيين من منازلهم إثر اعتداءات المستوطنين. وفي كثير من الحالات، يمارس وزراء ضغوطاً على جهاز الأمن الإسرائيلي والشرطة للتخفيف من إجراءات إنفاذ القانون ضد المعتدين الإسرائيليين.
والهدف السياسي من وراء هذه المبادرات - التي تتولى حكومة نتنياهو قيادتها - هو إحباط قيام دولة فلسطينية، وهو الهدف الذي أكده صراحة وزير الدفاع إسرائيل كاتس عقب الإعلان عن المستوطنات الجديدة. وبالمثل، أعلن سموتريتش بُعيد فوز دونالد ترامب الانتخابي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أن "عام 2025 سيكون عام السيادة في الضفة الغربية."
وفي هذه الأثناء، يتنامى التأييد الدولي للاعتراف بدولة فلسطينية بصورة منفصلة بشكل متزايد عن المطالبة بتوصل إسرائيلي فلسطيني لاتفاق أو حتى مفاوضات ثنائية. فبعض الدول تشترط للاعتراف شروطاً معينة، كإطلاق سراح الأسرى ونزع سلاح حماس أو إصلاح السلطة الفلسطينية. لكن التوجه العام يسير نحو تأييد الاعتراف دون شروط مسبقة. وقد نُظمت قمة 17 حزيران/يونيو استناداً إلى قرار أممي صدر في كانون الأول/ديسمبر، ومع اقتراب موعدها تتفاقم التوترات الدبلوماسية بين إسرائيل والمجتمع الدولي، خصوصاً مع الراعيين الرئيسيين فرنسا والسعودية. ففي نهاية الأسبوع المنصرم، منعت إسرائيل وفداً من وزراء الخارجية العرب بقيادة الأمير السعودي فيصل بن فرحان من زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله. كما حذرت إسرائيل فرنسا من أنها ستتخذ إجراءات رداً على قمة نيويورك، تشمل حسب التقاريرضم أجزاء من الضفة الغربية.
الخلاصة
إن التحولات التي تشهدها الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة - والمدفوعة إلى حد كبير بالسياسات الإسرائيلية، بما فيها أعمال المستوطنين المدعومة حكومياً - قد تغير حالة الجمود الطويل السائدة هناك. فلقد نجحت الاستراتيجيات الإسرائيلية في الحد من العمليات المسلحة المنطلقة من تلك الأراضي. لكنها في المقابل أججت الاحتكاكات ومهدت الطريق لخطوات إدارية واستيطانية جذرية تهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية، وتضع الأسس لضم أجزاء من الأراضي أو تطبيق السيادة الإسرائيلية عليها بالكامل.
من الصعب التنبؤ بتوقيت أو مدى إمكانية أن تؤدي السياسة الحكومية الإسرائيلية إلى موجة جديدة من العمليات الفلسطينية المسلحة، إن حدث ذلك أصلاً. لكن من الواضح أنها تفاقم العزلة الدبلوماسية لإسرائيل - خصوصاً في أوروبا، شريكها التجاري الأكبر، والتي تُبدي استعداداً متزايداً لتقليص الروابط الدبلوماسية والاقتصادية والعلمية. إضافة إلى ذلك، تؤخر السياسات الإسرائيلية التطبيع مع السعودية، وهي نتيجة لها تداعيات بعيدة المدى على العلاقات مع العالمين العربي والإسلامي الأوسع.
يستند المنهج الإسرائيلي الراهن إلى اعتقاد سائد في أوساط اليمين بأن إدارة ترامب ستقدم دعماً مطلقاً، أو على أقل تقدير لن تُبدي اهتماماً بالملف الفلسطيني. ورغم صعوبة تصور انعكاس هذا التوجه ما دامت إسرائيل تؤمن بأن هذا هو الموقف الواشنطني، إلا أن مثل هذا التحول الأمريكي قد يبدأ في مجالات تتداخل فيها المصالح الأمريكية المباشرة، كإنهاء الحرب في غزة أو التوصل لاتفاق نووي مع إيران أو إبرام اتفاقية مساعدة أمنية أمريكية إسرائيلية متعددة السنوات.